في الخريف يسقط "الثلج " في مدينتي، وأي ثلج ؟ انه دافئ ! كدفء شمس الربيع وماء الينابيع العذبة، ثلج مدينتي لا يتساقط ذراته من السماء، بل يتطاير عبر النسيم من حقولها الخضراء
تلعب بذراته الناصعة أنامل عاملات متعبة من الكد، مخضبة بالعرق وتعب السنين.
منذ الفجر الوليد يستيقظون مع العصافير ، يتجمعون ، يثرثرون ، يغنون الأغاني والأناشيد ،يحملون معهم " زوادة " النهار : حبات زيتون ،علب سردين ، رغيف خبز وربما زيت وزعتر ، زوادة بسيطة كبساطة عيشهم ، يفرشونها على الأرض الطيبة، يتمددون تحت ظلال الأشجار ،بين نسمات الهواء ، يتقاسمونها لقمة فلقمة فيما بينهم ، يفرحون قليلا ويتعبون كثيرا ، شعارهم في الحياة : إن الحياة كفاح !
أيتها العاملات ! بوركت أناملكم الرشيقة التي تدغدغ خصلات القطن الخريفي الدافئ ، وبوركت قطرات العرق المسالة من جباه تعانق أفاق الحلم بلقمة العيش .
منكم نستمد الدفء لشتاء قارس ، ومنكم تتعالى عبر المدى مواويل حزن ليوم طويل ،أتعبه البحث المستميت عن لقمة الغد ، المجبولة بآهات الجائعين ،عن رغيف مجعد بتجاعيد البؤس والشقاء .
ما أجمل أغانيكم عن الحب، عن الحياة والعمل !
من أغانيكم يفوح عبق الأرض،وتتعطر الصبا بأريج الحقول ونضارة الصبح الجديد !
من أنفاسكم تتعطر البراري بعبير الاخضرار ورحيق الأزاهير !
في الخريف سقطت الأوراق المصفرة ، تطايرت وارتحلت عبر الأنسام وكذلك سقطت سوسن من شجرة الحياة !
سوسن لم تكن ورقة مصفرة ، بل برعم وردة يانعة خطفها أنين الريح قبل أن تتفتح
سوسن!زهرة قطن الخريف الدافئة، ودمعة العذارى رحلت من الدفء إلى البرد،
من الخريف إلى الشتاء .
أين أنت في الربيع ...؟
رحلت عنا وبقي زادك للعصافير...!
رحلت بعيدا ،وبقي عطرك على الدروب يجوب أفق الغروب ونبع الغدير.
سوسن! جانية القطن في الصباح، ناسجة الكفن في المساء :
عند الفجر، كانت عروس، متوردة الوجنتين تحلم بين أحضان ثلج الخريف الدافئ بالياسمين ،وثوب العرس،
و عند الغروب، نامت بين أحضان تراب الخريف الدافئ ، ياسمينة ، شاحبة الوجنتين تعيش العرس ... في كفن ابيض !